الجمهوريّة في تونس من الجذور إلى الإعلان نضال لبيض / تونس


                                            الجمهوريّة في تونس من الجذور إلى الإعلان

                                                                   نضال لبيض / تونس

 

تصمت العصور أحيانا فيتحدث التاريخ ويحدث أن تتحدث الحوادث فيه فتلتحق الذكرى بالذكرى وتلتحم التواريخ بالرموز. تصمت العصور ويصمت معها التاريخ فيتحوّل الصّمت بدوره إلى رمز يشير إلى النسيان ويومئ بالبنان إلى من آل بهم الأمر إلى الدثور. وصمت التاريخ عن بعض العروش الغابرة قد لا يصاحبه صمت عن بعض التحولات فيه و التي تتحوّل الى مجرّد مناسبات تذكّر بحدوثها  ولا تتجاوز مراسم الإحياء والتذكير في حين ان التحوّل أحق بأكثر من ذلك وحريّ بالوقوف عند منعرجاته على مختلف الأصعدة بالدرس والتحليل ومن المناسبات في تونس الجديرة بهذا المقام هي مناسبة إعلان الجمهوريّة ، إذ جاء هذا النظام الجديد على أنقاض جملة من الحوادث مهّدت  له وهيأت الظرف لإعلانه. جاءت الجمهوريّة وبمجيئها أصبحت الرعية مواطنين ومواطنات وحلّت الدّولة محلّ المملكة والوطن محلّ الديّار وبقدومها غاب التفريق بين الخاصّة والجمهور.

أعلنت الجمهوريّة والحق الإعلان عنها بتأسيس الدستور لها واحدث لها عيد احتفاء بذكراها وسام تقديرا وإكبارا لها ومفتي و وكيل قصر وشعار .

وقد ظهر لفظ الجمهوريّة res-publica  لأوّل مرّة  في روما وفكرة الجمهوريّة وجدت فيم بعد لدى فلاسفة الإغريق. والجمهوريّة لغة مشتقّة  من فعل جمهر وجمهر الشيء  بمعنى جمعه والقوم اجتمعوا جمهورا وهي مذكرها الجمهوري ومصدرها الجمهور ومن الدّال يمكن توليد مجموعة من الدلالات ولفظ الجمهوريّة بمعنى مصدرها كان ولازال يحمل بين طيّاته معنى العدد الكبير من الناس ويتناقض مع فكرة العدد القليل قرّر له ذلك لأنّ جمهور النّاس أي أكثرهم واغلبهم مجمعون عليه وبذلك فهي تدلّ على نظام يفترض فيه التعبير عن رأي العدد الأكبر من النّاس

وامتزج في لفظ الجمهورية في البداية معنيان يشير الأول إلى الديمقراطية ويدل الثاني على شكل نظام الحكم المختلف عن النظام الملكي و ذلك قبل ان تنفصل الديمقراطية عن الجمهورية و يتصل معناها بشكل معين من أنظمة الحكم. و يعني مفهوم الجمهورية في الفكر السياسي الذي تكون فيه السيادة للمجموعة لا للفرد للشعب لا للحاكم ، واذا ما كانت السيادة ترجع للشعب فانه يكون على الشعب ممارستها لتحقيق وجود الجمهورية. وبذلك تكون النظام السياسي الذي يقع تعيين الحكام فيه عن طريق الانتخاب وهي تطلق اليوم على النظام الذي بمقتضاه يتولى شخص رئاسة الدولة عن طريق الاقتراع لا عن طريق الوراثة. ثم إن الجمهورية اليوم أكثر من مجرد لفظ يحيل على معنى معين بل هي لفظ نستحضر من خلاله تصورا لنموذج سياسي مثالي.

ولا يمكن أن يتنزل الحديث عن فكرة الجمهورية في تونس إلا في إطار سياق تاريخي تتواصل فيه رواسب الماضي بما أضاف إليها الحاضر من معان و دلالات لذلك يتجه التوقف بداية عند جذور فكرة الجمهورية (أولا) قبل التطرق إلى مرحلة إعلان الجمهورية (ثانيا).

1-  جذور فكرة الجمهورية

إن توخي الحذر والدقة أمران مطلوبان عند البحث عن عدد من المفاهيم والمؤسسات في الدول العربية الإسلامية حيث عمد بعض الباحثين إلى إسقاط بعض المفاهيم الغربية على التاريخ العربي الإسلامي رغم اختلاف المنظومتين الفكريتين ، والتي لا اثر فيها ولا تقارب بينها وبين المفاهيم أو المؤسسات المسقطة عليها، وإن إقامة الدليل على وجودها حجة على ان التاريخ الإسلامي عرفها قبل الغرب وبرهان على أن هذا الغرب هو الذي اقتبس من الفكر العربي الإسلامي وليس العكس.

وقد مثلت الخلافة في هذا السياق جمهورية لدى البعض كونها لا تقوم على توارث الحكم كما هو الشأن في الأنظمة الملكية بل تقوم على ضرورة عقد البيعة للإمام بالاختيار إلا أن اختيار الخليفة مقتصر على اهل الحل و العقد و يمكن ان تنعقد بيعته بخمسة او ثلاثة او حتى بواحد كما ان من يرقى الى كرسي الحكم سواء في الحكم الملكي او في حكم الخلافة فلا ينزله عنه الا الموت. وهذا ما يجرنا الى استقصاء فكرة الجمهورية وتبيان بعض ملامحها في الفكر العربي الإسلامي(ا) ثم في الفكر الإصلاحي التونسي(ب)

ا-الجمهورية في الفكر العربي الإسلامي

تتبوأ المعتزلة مكانة متميزة في الفكر العربي الإسلامي في عدد كبير من المسائل الفقهية والسياسية أبرزها شكل النظام السياسي ، ومن خلال ذلك فان الوقوف عند بعض ملامح فكرة الجمهورية هو بالأمر اليسير وليس بالامر العسير وذلك رغم اختلاف الأطر والأسس المعتمدة في اختيار الحكام.

احد أئمة المعتزلة يدعى بابي بكر و يكنى بالأصم رأى أن الإمامة لا تنعقد الا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم مما جعل البعض من الدول العربية يعتبرنه اول من بشر بالفكر الجماهيري  لا بالجمهورية فقط. وفي ذات السياق أكدت الكرامية وهي فرقة ظهرت في النصف الأول من القرن الثالث هجري سميت بالكرامية نسبة الى مؤسسها وصاحبها الأول محمد بن كرام السجستاني- على ان الإمامة تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين.

وعلى الرغم من غياب الحلول والبدائل في صورة عدم تحقق الإجماع في شخص من يتولى الحكم كما انتصر كذلك غيلان الدمشقي –قبطي الأصل من مصر كان أبوه قد اسلم وصار من موالي عثمان بن عفان- لنفس الفكرة ورفض البيعة الصورية التي يعقدها نفر قليل لأحد الأمراء في عهد الدولة الأموية معتبرا  الحكم حق لكل من كان قائما بالكتاب والسنة ولا تثبت أيضا إلا بالإجماع. وعن الأندلس اخبر ابن رشد عن أنواع السياسات فيها وهي السياسة الجماعية وسياسة الوحدانية وسياسة وحدة التسلط ليؤكد على ان أفضلها السياسة الجماعية وهي التي تقوم الرئاسة فيها على الاتفاق والانتخاب ، اذ لا فضل في هذه المدينة (و يقصد الأندلس) لأحد على احد.

غير انه كان لاتصال بعض الرحالة العرب بالغرب الفضل في اكتشاف هذا الشكل من الأنظمة السياسية ، اذ يشير الطهطاوي في “تخليص الإبريز في تلخيص باريس” الى “انقسام طائفتين تحاول الأولى ان يكون الحكم بالكلية للرعية وذلك على عكس الثانية ولما كانت الرعية لا يمكن ان تكون حاكمة ومحكومة وجب ان توكل نيابة عنها من تختاره للحكم وهذا هو حكم الجمهورية”.  والطهطاوي ذاته احتفظ برأيه عن هذا النوع من الجمهورية ويشترك في ذلك مع عدد من الرحالة العرب في الاحتفاظ برأيهم من فكرة الجمهورية ، ولا استبعد ان يكون مرد ذلك التحسب من ردود فعل على موقف يتناقض يومئذ مع المواقف الرسمية السائدة. ولم يشذ عن أسلوب عدم الإفصاح بالرأي لدى الجيل الأول من الرحالة العرب سوى المسيحي فرانسيس مراش – وهو فرانسيس بن فتح الله بن نصر الله مراش (1836_1873)- والذي أبدى إعجابه بحرية الفرنسيين في مقدمة كتابه “رحلة الى باريس” لقوله “فكم سرور واندهاش للأعين عندما ترى هذه الأمة الفرنساوية رافلة بأذيال الحرية الكاملة بدون خشية من التعثر بأشواك سيادة بربرية…لابسة ثياب الدين والدنيا…ولا ذعر من سطوات شريعة مارقة”.

وعلى اثر إلغاء الخلافة العثمانية تحولت فكرة الجمهورية الى مطلب تبناه الكثيرون اذكر منهم معروف الرصافي –كردي النسب (1875_1945)- الذي خاطب الأمة قائلا

إن الحكومة وهي جمهورية….كشفت كل قلب مضلل

سارت إلى نضج العباد بسيرة….أبدت لهم حمق الزمان الأول

غير ان فكرة الجمهورية لم تلق دائما القبول و الترحاب من قبل بعض المفكرين حيث لم يخف محمد إقبال احترازه عن فكرتي الانتخاب و الجمهورية في قوله

بدا السر في قوله من أريب…وما كان قبله يعلن

نظام الجماهير حكم به….تعد العباد ولا توزن

فالعدد عند محمد إقبال ليس مقياس بل المقياس عنده هو الوزن العلمي وان كان للعدد مقام فهو ليس بالمقام الأول. ورغم كل التحفظات حول فكرة الجمهورية إلا أنها ما فتئت في الانتشار بحمولتها الغربية على الأقل في مستوى شكل النظام ، ولعل من بين أوائل الأحزاب الجمهورية في البلاد العربية الحرية بالذكر هو الحزب الجمهوري السوداني الذي انشاه محمود محمد طه في 26 أكتوبر 1945 الذي تبنى مع رفاقه فكرة قيام حكم جمهوري في استقلال تام عن مصر ودون اي تحالف مع التاج البريطاني. و من الأمثلة الأخرى عن الجمهوريات العربية الإسلامية جمهورية طرابلس التي تم الإعلان عنها سنة 1918 بقيادة سليمان باشا الباروني. و في 29 من أكتوبر 1923 وقع الإعلان عن قيام الجمهورية التركية و في المغرب الأقصى أعلن عبد الكريم الخطابي –مفكر و صلح من المغرب الأقصى- عن قيام دولة الجمهورية الريفية يوم 18 جانفي 1923 هذا وقد أشار الطهطاوي إلى قيام جمهورية الصعيد المصري في أواسط القرن 18 بزعامة احد كبار الشيوخ الملتزمين.

ان الغاية من استعراض جذور فكرة الجمهورية في الفكر العربي الإسلامي  هو تبيان أهم الاتجاهات التي تبنت هذا الفكر والتي كان لها اثر في تونس خاصة زمن رجال الإصلاح المتطلعين للتبديل والتغيير.

ب_الجمهورية في الفكر السياسي  الإصلاحي التونسي

الفكر السياسي هو جملة من القناعات و الرؤى التي تتبناها النخبة من مثقفين ومفكرين والتي ينظرون لها و يعملون على تكريسها في الحياة السياسية. اشترك المصلحون التونسيون في نهاية القرن التاسع عشر مع سائر المصلحين في الدول العربية الإسلامية و انخرطوا معهم في الدعوة إلى الإصلاح إلا أنها كانت دعوة شبه خاصة اذ تعتمد على المراوحة بين الأبعاد التقليدية و الأبعاد الحداثية تتضح من خلال الدعوة الى الرجوع  لقواعد الدين ودعوة في ذات الوقت الى الاستلهام من الغرب استلهاما يكون متسقا مع أحكام الإسلام. ومن ابرز المفكرين و المصلحين ابن ابي الضياف على سبيل الذكر فهو لم يتردد في تبيان ايجابيات الحكم الجمهوري للخاصة والعامة على حد السواء غير ان ذلك كان مقترن بحرصه على التذكير في الآن ذاته على ان قواعد الملة الإسلامية لا تقتضي هذا الصنف من الحكم على حد قوله فابن ابي الضياف الذي قدم التعريف الأتي ذكره للملك الجمهوري على كونه “ان الناس يقدمون رجلا منهم باختيارهم يلبي سياستهم ومصالحهم لمدة معينة ولما تتم يخلفه غيره باختيارهم أيضا وهلم جرا…هو كواحد منهم ينفذ ما يتفق عليه الرأي من أهل المشورة و لهم في ذلك قوانين يحترمونها احترام الشرائع المقدسة ويقفون عند حدها” غير انه سرعان  ما يعود صاحب الإتحاف ليردفه  بوجوب الإمامة في الإسلام بقوله “وقواعد الملة التونسية لا تقتضي هذا الصنف الجمهوري لان نصب الإمامة واجب على الأمة شرعا يأثمون بتركه”.

وعلى نهجه سار خير الدين باشا ومحمد بيرم التونسي اللذان التزما عدم الجرأة و اكتفيا بمجرد سرد الأحداث و الإشارة إلى انتقال بعض الممالك الأوروبية الى جمهوريات دون إبراز اي موقف او إبداء اي رأي على الإطلاق ولعل ذلك راجع الى اتقاء شر أولي الأمر في الايالة التونسية خاصة و الإمبراطورية العثمانية عامة. وبعد إلغاء الخلافة العثمانية طرحت مسالة الجمهورية في تونس بصورة أكثر جدية حيث انقسم التونسيون بين مناصر للإصلاحات التي ادخلها كمال أتاتورك وبين متشبث بالخلافة فتأسست لجنة الخلافة آنذاك برئاسة احمد توفيق المدني التي صاحبها اتجاه اخر من التونسيين مساندين للإصلاحات الجديدة بتركيا.

وعلى اثر عزل محمد المنصف باي عن كرسي الحكم اسر لأحد المؤرخين الفرنسيين الذين تحولوا لزيارته في منفاه بمدينة “بو” الفرنسية بأنه  لو عاد الى كرسي الحكم في تونس سوف يتولى بنفسه إعلان الجمهورية واسر بذلك أيضا إلى جلولي فارس عندما زاره في منفاه وذلك ما أكده في خطابه بالمجلس التأسيسي يوم الإعلان.

وعلى صعيد اخر وقبل كل هذا بأمد عرفت تونس في القرن الثامن عشر  نوعا من الحكم الجمهوري  ففي معاهدة السلم المبرمة مع فرنسا في غرة جويلية 1728 وقعت الإشارة الى تونس كجمهورية صلب المعاهدة في ثلاث مناسبات. ولعل السبب الأقرب الى اعتبار تونس جمهورية في القرن 18 يعود الى ان الحاكم آنذاك كان منتخبا من الديوان ولم يكن حينها الحكم وراثيا وقبل هذا التاريخ بكثير وبما يزيد عن القرن و تحديدا في سنة 1625 احد مبعوثي مدينة البندقية الى تونس رأى فيها يومئذ “جمهورية شعبية تمارس ضربا من ضروب الديمقراطية العسكرية”.

ومن القرن السابع عشر لم يقع الإعلان عن الجمهورية الا في أواسط القرن العشرين.

2-إعلان الجمهورية

ان الدارس لتاريخ الحركة الوطنية الإصلاحية التونسية و لجذورها لن تغيب عنه الروابط الدقيقة والدائمة بين الإرهاصات الأولى لبروز فكر سياسي تونسي. وتدقيقا في ابرز المحطات المفصلية التحولية سواء القانونية او السياسية نلاحظ ان إعلان الجمهورية قد سبقه التلميح(ا) قبل التصريح (ب).

  ا-التلميح

لقد مثل كل من ابن أبي الضياف بكتابه “تونس الشهيدة” و لطاهر الحداد صاحب كتاب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” وإشعار أبو القاسم الشابي عبقرية تونس الأدبية الخالدة وكتابات وخطب المناضل علي بلهوان والدكتور الحبيب ثامر مؤلف “هذه تونس” والفاضل بن عاشور الشيخ النقابي الوطني وخطابات وتوجهات الزعيم الحبيب بورقيبة الحداثية و تطول القائمة… وقد شكلت كل هذه الأسماء و غيرها كثير مجموع النخبة التونسية ممثلة الاتجاه التحديثي الليبرالي فهي متشبعة بفلسفة الأنوار الأوروبية وبالفلسفة الوضعية. وقد كانت هذه القيادات بمختلف مواقعها تتفاعل مع حاضرها آنذاك وتتطلع الى المستقبل وكانت تطلعاتها تستند الى وضع نظام يأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات وانتخاب برلمان عن طريق الاقتراع العام وقد كانت هذه القيادات على بصيرة ثاقبة وفطنة راجحة وواعية بتحديات المرحلة وصعوباتها  فمن جهة كان هناك نظام الحماية الفرنسية المفروض على البلاد التونسية ومن جهة أخرى هناك طرف ثاني ممضي على اتفاقية الحماية وهو الباي رئيس البلاد الساعي إلى الحفاظ على موقعه و سلطاته.

و قد كانت ثقافة قيادات الحركة الوطنية في اغلبها مستمدة من المبادئ التحررية و الأفكار الليبرالية ومتشبعة بتاريخ تونس لا سيما ما خلفته أثار التعسف والتسلط الذي عاشه التونسيون زمن البايات. فكرة الجمهورية لم تأت من لا شيء لكن مسار الحركة الوطنية أنضجها وسرعها وقد مهدت لهذه المرحلة مجموعة من الأوامر العلية الصادرة عن الباي نفسه.

وقد بدأت مرحلة الإعداد للجمهورية بالتلميح منذ إصدار الأمر العلي بتاريخ 29 ديسمبر 1955 والمتعلق بإحداث مجلس قومي تأسيسي منتخب من الشعب بعد ان “تم لهاته الأمة التونسية بفضل الله وجهادها المستميت جانب مما تصبوا إليه من الاستقلال بإنهاء الحكم الفرنسي ونظام الحماية وتبديلهما بالحكم الذاتي في كنف سيادة تونسية موحدة…لذا نزف الى شعبنا الوفي البشرى المباركة بعزمنا على انجاز ما وعدنا به بتوقيعنا الأمر العلي القاضي بإحداث  مجلس تأسيسي” و هذا وفقا لنص النطق الملكي السامي بتاريخ 29 ديسمبر 1955.

و بتاريخ 25 مارس 1956 وقع انتخاب المجلس القومي التأسيسي خمسة أيام بعد الحصول على الاستقلال التام بهدف وضع الدستور للبلاد و حصل التنافس  آنذاك على 98 مقعدا فازت بها الجبهة القومية المتالفة من الحزب الحر الدستوري والمنظمات الوطنية وهو ما جعل النواب منتمين لنفس التوجه السياسي والفكري والثقافي الشيء الذي يفسر ان إعلان الجمهورية وقعت الموافقة عليه بالإجماع دونما اي اعتراض.

وفي 7 افريل 1956 وقع بمقتضى أمر علي من الباي إلحاق الحرس الملكي بالجيش.

وانعقاد أول جلسة للمجلس التأسيسي بتاريخ 8 افريل 1956 والتي تميزت بخطاب رئيسه الحبيب بورقيبة والذي ركز فيه على ان السيادة في تونس للشعب وفقا لما جاء في خطابه “تجتمعون في هذا المجلس التأسيسي بإرادة الشعب…فالسيادة في تونس سيادة الشعب صاحبها الشرعي و الحقيقي…فلا يخفاكم ان دولتنا التونسية … قد اعتراها قبل الحماية وأثناءها الاضطراب و الخلل. ولا يمكن ان يستمر هذا الوضع المزري… فنحن اليوم بصدد بعث دولة جديدة”.

تلاه أمر علي آخر بتاريخ 15 افريل 1956 الذي ورد فيه “عين منقذ الأمة وقائد الشعب المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة وزيرا اكبر رئيسا للحكومة و وزيرا للخارجية و وزيرا للدفاع الوطني”. فالذي عين شكلا هو الباي والمعين هو القائد والمجاهد والمنقذ للأمة بما في ذلك الباي نفسه.

وتسارعت بعد ذلك النصوص لتقليص اختصاصات الباي و للحد من الامتيازات التي تتمتع بها العائلة الحسينية. ففي 26 افريل 1956 صدر امر علي يتعلق بتحوير إدارة الملك الخاص للباي ودائرته السنية ليضع هذه الإدارة تحت تصرف متصرف للحكومة بإشراف وزير العدل.

وفي 30 من ماي 1956 صدر امر علي اخر يتعلق بضبط حقوق و واجبات أعضاء الأسرة الحسينية المالكة ليبطل جميع الامتيازات و الإعفاءات و الحصانات مهما كان نوعها والمعترف بها قبل صدور هذا الأمر لأفراد العائلة الحسينية. وفي الحادي و العشرين من جوان 1956 وقع تعويض شعار البايات القديم الذي يعود تاريخه الى احمد باي (1805-1855) بشعار جديد يحتوي على رمز الحرية والعدالة والنظام. وبنفس التاريخ صدر امر علي آخر يتعلق بإدارة تراث الباي الخاص ودائرته السنية والملك الخاص للدولة المخصص للتاج ويقضي بوضعها تحت تصرف وكيل يعين من بين متصرفي الحكومة التونسية ولهذا الوكيل الحق في إدارة الأملاك المنقولة وغير المنقولة التابعة للباي والتصرف فيها.

وبتاريخ 30 جوان 1956 الحق الباي العسة المصونة الخاصة به بالجيش التونسي بمقتضى الأمر العلي المتعلق بإحداث جيش تونسي. وفي 3 اوت 1956 صدر امر علي لتنقيح الأمر الصادر  في 21 سبتمبر 1955 والمتعلق بتنظيم السلط العمومية تنظيما مؤقتا ليسحب من الباي السلطة الترتيبية وليترك له فقط تعيين الاغة وتعيين الحكام  من الدرجة الأولى.

وبذلك أصبح عرش الباي في تونس يحتضر ينتظر قضاء نحبه فلم يعد له سوى بضعة قصور وتاج ليس له أحقية التصرف فيه و كما قال احد المؤرخين “صار النظام الملكي بتونس هيكلا أجوف مثل الثمرة التي قضت أمدها الطبيعي ثم جفت ويبست فتراها تنحت عن غصنها بدون كلفة وتكاد لا تسمع لسقوطها دويا”. فبعد هذا التلميح و التمهيد لم يعد يخفى على احد ان إعلان الجمهورية في تونس أصبح مسالة وقت ليس الا وحسب صحيفة العمل التونسية انعقد بتاريخ 23 جويلية 1957 اجتماع للديوان السياسي للحزب الحر الدستوري المتالف  من السادة الحبيب بورقيبة و الباهي الادغم و المنجي سليم وعلي البلهوان و جلولي فارس والهادي نويرة و محمد المصمودي و الطيب المهيري والصادق المقدم واحمد التليلي وعبد الله فرحات وعبد المجيد شاكر واحمد المستيري والفرجاني بن الحاج عمار والحبيب عاشور والمرجح انه خلاله وقع الاتفاق عن مختلف الترتيبات لإعلان الجمهورية بما في ذلك نص الإعلان وطريقة الاقتراع عليه ، اذ ورد في صحيفة العمل التونسية انه “من المتوقع مشاركة السيدان رئيس الحكومة ونائبه في المناقشة بصفتيهما النيابية و الحزبية و ان توقف الجلسة بعد الحوصلة التي سيقوم بها زعيم الامة ليتمكن المجلس من تحرير لائحة تهدف الى إلغاء النظام الملكي وتكليف رئيس الحكومة بصفة مؤقتة برئاسة الدولة ومباشرة جميع الاختصاصات التي كانت ممنوحة للملك بما في ذلك إمضاء الدستور الذي سيسنه المجلس التأسيسي والذي سيضع الدواليب القارة للدولة”.

ان ما ورد بصحيفة العمل قريب من حيث صياغته من نص الإعلان ذاته هذا النص الذي لم يقرا الا في الساعة السادسة مساء معلنا سقوط العرش الحسيني دون دوي يوم 25 جويلية 1957 لتدوي بذلك مائة طلقة مدفعية في فضاء تونس احتفالا بمولد الجمهورية بعد التصريح بذلك.

 

 ب- التصريح

“نحن نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي

بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب

و تدعيما لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب وسيرا في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجهة المجلس في تسطير الدستور”.

يؤكد مطلع نص الإعلان على ان أعضاء المجلس القومي التأسيسي هم نواب الأمة التونسية و المجلس القومي التأسيسي وقع انتخاب أعضائه انتخابا عاما حرا و مباشرا مراعاة في ذلك لمبادئ الديمقراطية. و كان المجلس من وراء  هذا التأكيد بحث على التحرر من الشرعية الملكية و التأسيس لشرعية جديدة متأتية من شرعية صناديق الاقتراع. و بالبحث عن الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير أشير الى ان التجارب الدولية تعتمد طريقتين و هما طريقة الجمعية التأسيسية و طريقة الاستفتاء التأسيسي. فالطريقة الأولى تقوم على انتخاب الشعب لجمعية تأسيسية يعهد لها مهمة وضع الدستور وينتهي دورها بانتهائه  اما الطريقة الثانية فهي طريقة الاستفتاء التأسيسي حيث تدعي من خلاله هيئة المواطنين الى التعبير عن رأيها تجاه مشروع قرار معين. وقد طبقت تونس أسلوب الطريقة الأولى حيث انتخب في 25 مارس 1956 أعضاء المجلس التأسيسي لوضع الدستور الصادر في 1 جوان 1959.

الاستناد الى شرعية الشعب و سيادة الأمة في ان واحد مرد القطع نهائيا مع المشروعية الملكية التي يرتكز عليها نظام الباي في تونس. ومعنى السيادة ان لكل فرد من أفراد الشعب جزء من هذه السيادة كون هذه الأخيرة قابلة للتقسيم و التجزئة وأنها أيضا لا تتلاءم مع النظام الملكي وبالتالي فهي تستوجب قيام نظام جمهوري وتفضي سيادة الشعب الى الديمقراطية المباشرة وشبه المباشرة ويكون النائب وكيل عن ناخبيه.

“نتخذ باسم الشعب القرار التالي النافذ المفعول حالا

أولا نلغي النظام الملكي إلغاء تاما”

وبذلك يقطع إعلان الجمهورية نهائيا مع النظام الملكي الذي دام أكثر من 15 قرنا ومع الحكم الحسيني الذي دام 252 سنة منها 75 سنة تحت الحماية تولى خلالها الحكم 19 بايا. وعملية الإلغاء تقتضي إحلال مشروعية جديدة تعوض المشروعية الملكية و تثبت نظاما سياسيا جديدا. ويتساءل البعض هل ان إلغاء المكية فيه تجاوز و تمرد على الأمر العلي المؤرخ في 29 ديسمبر 1955 الذي احدث المجلس التأسيسي و حدد مهمته. غير ان امتلاك السلطة لا يضفي الشرعية على القيادة اذا فقدت هذه القيادة ثقة الشعب وخانت أمانة حماية الوطن و المواطن وبذلك تتحول سلطة المجلس من سلطة فرعية الى سلطة أصلية قادرة على تحديد صلاحياتها بنفسها.

“ثانيا  نعلن ان تونس دولة جمهورية”

نص الإعلان لم يعرف مصطلح الجمهورية وهي تعرف بكونها شكل من الحكم حيث النفوذ و القوة ليسا حكرا على شخص و حيث تؤول رئاسة الدولة بالانتخاب و الجمهورية تعني ان إقرار سيادة الشعب المصدر الوحيد و الأصلي للشرعية فهي نقيض الحكم الملكي بالوراثة. فالجمهورية مفهوم يقترن بالدولة وبالدستور الضامن للحريات والمساواة بين المواطنين لمبدأ تفريق السلط المجمعة بين يدي الملك.

“ثالثا  نكلف رئيس الحكومة السيد الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور في حيز التطبيق و نطلق عليه لقب رئيس الجمهورية”.

في ذات جلسة إلغاء النظام الملكي و إعلان النظام الجمهوري وقعت تسمية “المجاهد الأكبر و منقذ الأمة و قائد الشعب الحبيب بورقيبة (حسب ما وقع تسميته وفقا للأمر العلي بتاريخ 15 افريل 1956) رئيسا للجمهورية. هذه التسمية هي تكليف ضروري حتى لا يحدث فراغ في أعلى هرم السلطة وذلك إلى حين صدور دستور للبلاد و تنظيم انتخابات.

رابعا  نكلف الحكومة بتنفيذ هذا القرار وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري كما نكلف كلا من رئيس المجلس و الأمين العام لمكتب المجلس و الحكومة بإبلاغ هذا القرار الى الخاص والعام”

وقع آنذاك تكليف علي البلهوان المقرر العام للدستور بإبلاغ آخر الحسينيين قرار المجلس القومي التأسيسي  وتوجه الى القصر الملكي وتلا للباي محمد الأمين إعلان الجمهورية.

 

لاتعلیق

اترك تعليقاً