الموت الأسود
د. يسرى صفاءالدين ناجي
بدت الشوارع خالية إلا من الجثث المتعفنة المتناثرة هنا وهناك فالجو قاتم مائل الى السواد ، ولَم يبقى اي رفيق للإنسان آنذاك سوى الكائنات الصغيرة التي تنتظر لتنقض عليه وترديه ميتاً وتلحقه بمن لقي حتفه قبله .
هذه رواية مرعبة ولا كذباً وتلفيقاً إنما هي حادثة حصلت خلال القرن الرابع عشر الميلادي ، حادثة اودت بحياة الملايين من البشر حول العالم .وتعد من ابشع الحالات التي مرت على البشرية جمعاء ، إذ انتشر مرض يدعى الطاعون أو الموت الأسود mors atra وترجمتها حرفياً ( الموت الفظيع ) تأكيداً على رعب وخراب هذا الوباء الذي اجتاح الكرة الارضيّة مابين عامي ( ١٣٤٧-١٣٥٣م) . [1]
ربما لم يرد في الكتب مرض مميت أكثر من الطاعون ، والطاعون من الأمراض الوبائية القديمة وهي شديدة العدوى وسريعة الانتشار والفتك ويسبب نسبة كبيرة من الوفيات اذا ماانتشر في بلدٍ ما ،[2] والطاعون عدة انواع منها الرئوي الذي يصيب الرئة ومنها الدُمبلي وهو أكثرها انتشاراً [3]،.ويسبب الدُبلي حمى شديدة ومن ثم ظهور بثور ودمامل على جسم الانسان المصاب ، ويسمى باسم تورم العقد اللمفية ( الغدد اللمفاوية) وقد تظهر بالابط والرقبة وتكون بحجم بيضة الدجاجة وتكون صلبة الملمس وتسبب الماً عن اللمس.[4] وهو في الأصل من الأمراض التي تصيب الحيوانات فينتقل الى الانسان عن طريق التلامس مع الحيوانات المصابة أو عن طريق الفئران والبراغيث .[5]
بدأت القصة عندما اعتلى جان بيك بن أوزبك خان (. ١٣٤٢-١٣٥٧م ) عرش خانية القبجاق المغولية ومعنى اسمه ” أمير الروح ” وهو من سلالة جنكيزخان وكان رجلاً صلباً أراد ان يوسع دولة المغول باتجاه أوربا ، فتوجه عام ١٣٤٧م لحصار احدى من شبه جزيرة القرم وتحديداً عند مدينة كافا أو فيوديسجيا الاوكرانية وكانت سبيلهم الوحيد للعبور الى العالم الأوربي حيث كانوا يعتبرون اسوارها الحاجز الوحيد امام التوسع والهيمنة وفرض المغول حصاراٌ على المدينة إيماناً منهم ان اَهلها وقاطنيها سيخضعون في نهاية الامر.[6]
لكن حدث شيئاً لم يكن بحسبان جاني بيك ، حيث صدم بأن جنوده يتساقطون واحد تل والآخر هذا إصابته الحمى والآخر بدأ جسده بالتعفن ، لكنه ابى الانسحاب وفِي لحظة قرر جاني بيك ان يخوض اول حرب بيولوجية piological warfare حيث امر بإلقاء جثث جنوده المصابين الى داخل المدينة عن طريق منجنيق ضخم ،ليَفْتِك الطاعون بأعدائه نيابة عن جنود المغول ، استسلم السكان بالفعل . لكن الطاعون لم يستسلم وواصل انتشاره في أوربا ليقتل الملايين غير متقيد بحدود جغرافيّة ولا بأهداف من أطلقوه ،[7] بالإمبراطورية المغولية التي كانت اكبر امبراطورية آنذاك استطاعت التمدد في كل مكان وبلغ عدد قتلى حربهم حوالي أربعين مليون إنسان ، بينما الطاعون الذي انتشر بسببهم أيضا وحده ضعف هذا العدد تقريباً على اقل تقدير ، حيث اصاب منظر الجثث أهل كافا بحالة من الذهول اول الامر ثم مالبث ان انتشر المرض بين السكان وبدأ الموت يغزوهم فبدؤا بالهروب الى أوربا حاملين معهم مرض الطاعون ، وكذلك الحال بالنسبة للجنود المغول العائدين الى بلادهم وعن طريق الحرير،[8] التجاري الذي اكتشفه المغول لتجارتهم . فانتشر المرض في اسيا والشرق الأدنى مما يوحي بأن هذا الوباء الأوربي كان جزءاً من وباء عالمي أوسع نطاقاً، أودى بحياة ثلث سكان أوربا تقريباً وعدد لابأس به في كل المناطق التي غزاها . في واحدة من أكبر الكوارث التي شهدها العالم عبر التاريخ ، وبسب جهل الناس بكيفية التعامل مع هذا المرض أدى لدخوله آلو كل بيت وكل جسد ، مستمراً ليَفْتِك ويقتل كل كائن حي يقع في طريقه حتى عام ١٣٥٣م. بالرغم من ان الاوربيون حاولوااتخاذ العديد من التدابير لمنع انتشار المرض ولكن دون جدوى ، فبدأ قسم منهم باستخدام السحر والشعوذة ولجاؤا آلو الكنائس لتقديم القرابين للكنيسة بدلاً من ان يبحثوا عن علاج أو اتخاذ إجراءات وقائية ضد ذلك المرض ، ولما انعدمت وسائل التغلب على المرض فسر الرهبان ورجال الدين في أوربا تفشي الوباء بانه عقاب من الله ، وقد يكون فعلا هذا المرض سخط من الله لكن يجوز عنده النقطة فقط دون تحريك ساكن تاركين الأخذ بأسباب النجاة ؟ امر صائب اطلبوا الرحمة والمغفرة ثم اعلموا كل ما ممكن لإنقاذ الأرواح التي تزهق بسبب هذا المرض القاتل . فالرجوع الى الله( سبحانه وتعالى) في مثل هذه ألمحن وفِي كل الأوقات شئ طبيعي ، لكن بالعموم في العصور الوسطى كانوا عند انتشار الأوبئة وخاصة الطاعون الفتاك يضعون أنفسهم امام خيار واحد وهو فقط التضرع والدعاء وانتظار مصير الموت المحتم عليهم أو ان يرفع البلاء عنهم من تلقاء نفسه ، كان من ممكن ان يبرر تصرفهم هذا خاصة اذا ماعرفنا انهم كانوا يضنون انه لا علاج لهذا المرض ، لاسيما كانوا يفتقرون الى الوسائل الوقائية المتوفرة لنا كما في وقتنا مالحجر الصحي والعزل وابعاد الحيوانات خارج المدن وإغلاق المناطق المبوءة لمنع انتشار المرض،[9] سوى ان مدينة فلورنسا الإيطالية لم تدع لهم اي ما يبرر تصرفاتهم تلك فهي المدينة الوحيدة الناحية من هذا الوباء الفتاك حيث قاموا بتجميع المصابين وعزلهم في مكان واحد بدل من حالة من ان يعيشوا حالة من الهلع والضياع ، واستكمالا بإجراءاتهم الوقائية لجاؤا الى حجر السفن القادمة اليها مدة أربعين يوم قبل السماح لها بالرسو في موانئها وإفراغ حمولتها في تطبيق أشبه بالحجر الصحي في يومنا هذا . وقد تمكنوا بالفعل من الحد من انتشار المرض الى حد ما . [10]
[1] ar. M. Wikibeda.org.
[2] مجموعة من المؤلفين ، الموسوعة الطبية الحديثة ، ترجمة : احمد عمار واخرون ، ط٢( القاهرة ، ١٩٧٠) ،ج٥،ص٧٣٨.
[3] العسقلاني ، احمد بن علي بن حجر (ت:٨٥٢هـ/١٤٤٨م) فتح الباري في شرح صحصح البخاري ، تح : عبد العزيز بن عبدالبار ، ط٢ ( بيروت ، ٢٠٠٥) ج٦، ص١٨١-١٨٢٠؛ ابن تغري بردي ، جمال الدين ابو المحاسن (ت:٨٧٣هـ/١٤٦٩م) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (القاهرة، ١٩٦٣) ج١٠، ص١٩٧-١٩٩.
[4] الرحيباني ، مصطفى السيوطي، مطالب أولي النهى ، (دمشق ، ١٩٦١) ج٤، ص٤٢٢.
[5] عطية الله ، احمد ، القاموس الاسلامي ، ط٣(مصر ، ١٩٦٨) ج٤،ص٤٢٥.
[6] ابن بطوطة ،ابو عبدالله محمد بن ابراهيم (ت:٧٧٩هـ/١٣٧٩م) تحفة النظار في غرائب الامصاروعجائب الأسفار ، دار صادر (بيروت،١٩٩٢) ص٣٣٧؛ ابن خلدون ، عبد الرحمن بن محمد (ت:٨٠٨هـ/١٤٠٥م) ديوان النبتدأ والخبر في ايّام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر المسمي تاريخ ابن خلدون ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (بيروت، ٢٠٠٠) ج٥،ص٦٠٧؛ القلقشندي ، احمد بن علي الفزاري (٨٢١هـ/١٤١٨ن) صبح الأعشى في صناعة الإنشا،المطبعة الأميرية ( القاهرة ،١٩١٤) ج٤،ص ٤٧٣-٤٧٣؛ عاشور ، مصطفى ، الميكروبات والحرب البيولوجية ، دار المعارف ( الاسكندرية ،لا.ت) ص ٦.
[7] عاشور ، الميكروبات والحرب البيولوجية ، ص٦.
[8] للمزيد عن طريق الحرير ينظر فرانك ، إيرين ، ديفيد براونستون ، طريق الحرير ، ترجمة: احمد محمود ، المجلس الأعلى للثقافة (لا.م لا. ت ).
[9] حميدي ، فتحي سالم ، وباء الطاعون وأثره على مدينة القاهرة في العصر المملوكي ، مجلة أبحاث كلية التربية الاساسية ، جامعة الموصل ، مج١٢ ، ع ٤ ، ٢٠١٣، ص ٤٦٦-٤٦٧.
[10] – trtarabi. Com
لاتعلیق