عالمية المؤرخ
الاستاذ الدكتور
ابراهيم سعيد البيضاني
الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين
على الرغم من الصعوبة التي تكمن في ان نفكر سوية على مستوى العالم ، او ان نضع تصورات او فكر تاريخي عالمي موحد ، نتيجة الاختلاف في الاجندات والمصالح والحاجات والظروف ، فضلا عن الصراعات واصطدام المصالح والرؤى ، وبالتالي فان الحديث عن رؤية تاريخية موحدة هو ضرب من الخيال ، لا يمكن ان يتحقق ، الا انه في الوقت نفسه فان للتقارب والتفاعل ضرورات ، اذ ان المؤرخ يمتلك رؤى وقراءات وطنية واقليمية وعالمية ويمتلك تاثيرا في الثقافة والوعي وفي صناعة وصياغة وكتابة التاريخ ، وبالتالي فانه قادر على صياغة مشتركات تنمي التفاعل والتعايش وتدفع نحو ازالة التوترات والصراعات ، وتوظيف احداث التاريخ وقرائتها من جديد لاستنباط الاحكام والدروس التي تعزز نجاح الوعي الجديد والدعوة الى السلام والتعايش ، فضلا عن ان مسار التاريخ الانساني اكد حقيقة ان الصراعات والحروب وتناقض المصالح جعلت الانسانية تدفع ثمنا من حياتها واستقرارها ومستقبلها ، وقدمت التضحيات وانفقت مواردها وضاعت على المجتمعات فرصة العيش بسلام ، وبالتالي فان المصالح المشتركة التي تقوم على احترام سيادة وخصوصية ومصالح الطرف الاخر توفر فرصة لنمو العوامل المشتركة والمصالح المشتركة ، فمثلا العلم والتكنولوجيا مصلحة مشتركة ، ومكافحة الفقر والعيش بمستوى لائق هو هدف انساني ، والتعليم هو اداة للثقافة والعلوم ولبناء المعرفة وخلق الوعي والتربية ، ومثلما نحب ان نمتلك هي الحقوق يجب ان نمنح هذا الحق للاخرين ، فضلا عن ان تنظيمات ومؤسسات الامم المتحدة قادرة على اداء ادوار ايجابية كبيرة فيما اذا قدمت لها الامكانيات والمساحة والدعم في مكافحة افات وامراض ومشكلات وتحديات تواجه المجتمع الدولي .
فضلا عن ان الارتقاء بالمؤرخ من حيث الفكر واليات ومعايير البحث العلمي وموضوعيته والامانة العلمية الانسانية التي يمتلكها المؤرخ تجعل منه مرتكزا لتفكير ومنهج عالمي انساني يحقق التواصل والتعايش والقبول دون ان يتخلى عن مصالحه الوطنية ، وان اعادة التفكير والقراءة والتحليل للتاريخ تجعلنا نمسك بخيوط واسباب الازمات ، والعوامل وراء الاحباط والتخبط والضعف الذي تعيشه الدول في مساحة واسعة من العالم .
لذلك لابد من اعطاء مساحة من التفكير والبحث لموضوعات شمولية عالمية تعزز تفاعل الحضارات البشرية والانسانية بين الامم والدول والحضارات ، والوقوف وقفة جدية علمية فاحصة متاملة في اسباب الحروب والصراعات التي فتكت بالمجتمع الانساني ،وتحديد المسؤولية التي حددت هذا المسار، هل هي ارادات الحكام واهوائهم ، ام ارادة الشعوب ، او انها من صنع الايديولوجيات ، وبالتالي فان القراءة في اطار الشمولية وفي اطار البحث عن الاهداف والعوامل المشتركة تقتضي قراءة علمية متانية .
زيادة على ذلك لابد من التعامل مع مبدا القوة واحتواء الاخر الذي هيمن على تاريخ الصراعات من خلال دراسة اثاره السلبية او الدعوة الى جعل القوة رمزية للتفاعل الحضاري والايجابي ، او مواجهة القوة الغاشمة من خلال قوة ونظرية وايديولوجية تعزز مبدا القوة الايجابية التي تدفع نحو السلام والاستقرار والتعايش .
وان عالمية المؤرخ تفرض دراسة وقراءة فكرية تاملية لاثار الارهاب واسبابه وتاثيراته على الامن والسلم الدوليان ، اذ اصبح يشكل تهديدا مباشرا وواسعا لقيم الانسانية ولكل البشرية حاضرا ومستقبلا، اذ شاب كثير من الغموض والتناقض مسالة التعامل مع الارهاب واسبابه ومبرراته .
وعموما فان المؤرخ العالمي يبحث عن تقارب وتلاقح وحوار الحضارات الذي يعتمد على تبادل المصالح والمكاسب ، وجعل التفاعل الحضاري وسيلة لتحقيق الحياة السلمية ، وبالتاكيد ان التفاعل الحضاري الاقليمي الذي يجمع حضارات متقاربة في القوة والنشاة والتعايش والجغرافية هو كفيل بان يجعل من حالة التوازن متحققة ، ويمنح قوة اكبر لتبادل المصالح والمنفعة ، وبالتالي تجعل من الهوية الوطنية والاقليمية مدخلا للتفاعل الحضاري الانساني ، وسيكون المؤرخ بعالميته ونهجه الانساني داعية للسلام والتسامح وقبول الاخر والتفاعل الحضاري ، من دون ان يتخلى عن مصالحه وحاجاته ، ومن هنا تظهر اهمية تاسيس الاتحاد الدولي للمؤرخين للتنمية والثقافة والعلوم الاجتماعية ليكون مؤسسة علمية فكرية ثقافية عالمية للتعايش وتبادل الخبرات والافكار والتجارب وصولا لاهداف وعوامل مشتركة تسهم في صناعة افكار واراء وقراءات فكرية ناضجة متطورة تعزز بناء الحضارة الانسانية وفق رويا جديدة .
لاتعلیق